السبت، 3 يوليو 2010

عندما يخيِّم الحزن بقلم: د. خالد فهمي إبراهيم

عندما يخيِّم الحزن![03/05/2010][16:35 مكة المكرمة]

د. خالد فهمي

بقلم: د. خالد فهمي إبراهيم



في رثاء الدكتور عبده الراجحي (1937- 2010م)

بعد رحلة عطاء طويلة ومشرِّفة في خدمة العربية، بما هي لغة الكتاب العزيز؛ أسلم الراحل الكريم الدكتور عبده الراجحي روحه إلى بارئها، في صبيحة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1431هـ الموافق للسادس والعشرين من شهر أبريل سنة 2010م عن عمر ناهز الثالثة والسبعين عامًا، قضى ما يقرب من خمسين عامًا منها في خدمة علوم اللسان العربي؛ دارسًا وباحثًا ومؤلفًا ومترجمًا.



والدكتور عبده الراجحي نموذجٌ فذٌّ من الجيل الثاني المؤسس للمعرفة اللغوية في الجامعات المصرية والعربية، وهو الجيل الذي تسلَّم الراية من الجيل الأول؛ جيل الرواد الذي بعث في العلم بلغة العرب روحًا جديدةً عصريةً مرتكزةً على المناهج الحديثة؛ التي سعت إلى إحياء مجد الدراسات اللغوية أو اللسانية العربية، وفحص منجز اللغويين العرب في الميادين كافةً، وعلى اختلاف المستويات الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية والدلالية، وبشكل لم يهمل في الوقت نفسه إخلاص درس الظواهر والمسائل والقضايا المتعلقة بتاريخ علم اللغة عند العرب، والفلسفات الموجهة له، والحاكمة على مسيرته، ومسيرة أعلام الكبار، ومصنفاته المركزية؛ التي تمثل علاماتٍ أساسيةً على طريق دراسة العربية وفقه لغتها دراسةً علميةً منضبطةً.



عبده الراجحي.. سيرة حياة موجزة

والدكتور عبده الراجحي هو عبده علي الراجحي، وُلد في أكتوبر سنة 1937م بمحافظة الدقهلية بالوجه البحري المصري، درس اللغة العربية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وتخرج منها حاصلاً على الدرجة العلمية الأولى (الليسانس) بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف سنة 1959م.



ثم واصل دراساته العليا فحصل من الجامعة نفسها على درجة الماجستير في العلوم اللغوية سنة 1963م، بأطروحته عن كتاب "المحتسب" لابن جني، ثم حصل على الدكتوراه سنة 1967م عن اللهجات العربية في القراءات القرآنية.



وكان عقب تخرُّجه قد عيِّن معيدًا سنة 1961م بكليته التي تخرج منها وظل فيها حتى لقي ربه الكريم أستاذًا غير متفرغ، بعد خدمة علمية استمرت ما يقرب من خمسين عامًا.



وكان الراحل الكريم شغل مناصب علمية وإدارية متعددة، أستاذًا ورئيسًا لقسمَي اللغة العربية وقسم الصوتيات بجامعة الإسكندرية، ووكيلاً وعميدًا.



وعرفته الجامعات العربية والعالمية أستاذًا مرموقًا في الدراسات اللغوية، ولا سيما في فرع تأهيل غير الناطقين في ميدان تعلُّم العربية.



كما كان واحدًا من أهم الأساتذة الذين عُنُوا بتحكيم أعمال الأساتذة وترقيتهم في الجامعات المصرية والعربية.



وقد كان لهذا العطاء العلمي رفيع المستوى أثره في اختياره عضوًا في عدد من المؤتمرات العلمية العالمية في اليونان 1979، والرباط 1981م، والكويت 1985م، وماليزيا سنة 1990م، وهو الأمر الذي تُرجم ترجمةً واضحةً في انتخابه عضوًا عاملاً في مجمع الخالدين، مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 2003م، وغيره من المجامع والاتحادات العلمية واللجان.



عبده الراجحي وحصاد عمر حافل بالعلم

وفحص المنجز العلمي للدكتور عبده الراجحي يوقفنا على عدد من علامات التميز المهمة جدًّا في هذا السياق، قائدةً إلى الإقرار بأنه أحد أهمِّ علماء اللغة المعاصرين في مصر والعالم العربي والإسلامي، ليس فقط، وإنما هو واحد من أهمِّ أصوات علم اللغة يدرك حجم الرابطة بين علم اللغة وخدمة القرآن الكريم، وهو الأمر الذي يبتدَّ من خلف أطروحتيه الأساسيتين للماجستير والدكتوراه.



ويمكن توزيع إنتاجه العلمي على المحاور التالية:

أولاً: الدراسات في ميدان علم اللغة، وهو الميدان العلمي الأكبر، الذي مثَّل مساحة جهاده وإنتاجه وحركته العلمية، وقد خلَّف لنا من هذه الدراسات في هذا الميدان ما يلي:

1- منهج ابن جني في كتابه "المحتسب"، الإسكندرية 1959م.

2- اللهجات العربية في القراءات، القاهرة 1968م، وطبعات أخرى كثيرة بالإسكندرية.

3- التطبيق النموي، بيروت 1972م.

4- التطبيق الصرفي، بيروت 1973م.

5- فقه اللغة في الكتب العربية، بيروت 1974م.

6- دروس في شروح الألفية بيروت 1978م.

7- اللغة وعلوم المجتمع، بيروت 1979م.

8- دروس في المذاهب النحوية بيروت 1978م.

9- النحو العربي والدرس الحديث، بيروت 1979م.

10- علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية الرياض 1990م.



وتظهر من هذه القائمة عنايته الظاهرة بالمنجز التراثي في علم اللغة، وإدراكه الواضح للارتباط العضوي بين دراسات علم اللغة والقرآن الكريم بقراءاته المختلفة وما هو ما يظهر في (1، 2) فضلاً عن تقديره الواضح لما قدمه علماؤنا من خدمة اللسان العربي، وهو ما تجلَّى في تعليقاته وتحليلاته لعدد من عيوب مذاهبهم وآرائهم ومصنَّفاتهم على ما يظهر في (5، 6، 8)، ثم عنايته بالتواصل من المنجز العصري وما توصلت إليه المنهجيات المعاصرة في خدمة علم اللغة، وهو ملمحٌ أصيلٌ في الاتجاه الذي تمثله المدرسة الفكرية العربية الإسلامية المنتمية؛ التي لا تتنكَّر للتراث، ولا تهمل المنجز الحديث، وهو ما نراه واضحًا في (7، 9، 10).



على أن التدليل على مسألة انتمائه للمعرفة الإسلامية من بوابة خدمته لعلوم اللسان العربي تظهر- بالإضافة إلى ما مرَّ دراسات توصل لهذا المنحنى- في دراسات أخرى تظهر هذا الوجه على صورة صريحة لا تخطئها عين دارس لجهود عبده الراجحي في هذا الميدان، وهو ما نلحظه في المقالات العلمية (وهي بحوث مطولة):

أ- النحو العربي وأرسطو، اليونان 1979م.

ب- التراث العربي ومناهج علم اللغة، الرباط 1981م.

ج- التحيز في الدرس اللغوي، وهو واحدٌ من أهم بحوث الكتاب الجامع عن إشكالية التحيز، الذي حرَّره المرحوم عبد الوهاب المسيري.



هذه الثلاثة، مع ما سبق الإشارة إليه هنا، دليلٌ قاطعٌ على الروح الإسلامية التي حكمت توجهات عبده الراجحي الإسلامية.



ثانيًا: الكتب العلمية في ميدان تيسير تعليم العربية لأبنائها ولغير أبنائها.. وهناك ملمحٌ أصيلٌ ظاهرٌ جدًّا على عطاء الدكتور عبده الراجحي العلمي، وهو إسهامه المتميز في ميدان تيسير تعليم العربية، وهو يترجم عنه بكتابيه الشائعيْن: التطبيق النحوي والتطبيق الصرفي، وهما (3، 4) في البند (أولاً)، وهو الأمر الذي واصل خدمته تأليفًا في كتابه رقم (10)، بالإضافة إلى ترجمته كتاب (أسس تعليم اللغات وتعلمها)، الذي نشره سنة 1994م، ثم عاد ونشر منه فصلاً مستقلاًّ في كتابه فصول في علم اللغة 1999م، بالإضافة إلى بعض بحوثه في الميدان نفسه، من مثل بحثه (النحو في تعليم العربية لغير الناطقين بها)، ماليزيا 1990م.



ثالثًا: مصنفاته في خدمة الفكرة الإسلامية والعربية.. ومن الحق أن نقرر أنه صحيح أن الدكتور عبده الراجحي عُرف أستاذًا مرموقًا لعلم اللغة في غير ما ميدان من ميادينها، وهو الوجه البارز المعلن لكل من عرف جهاد الراحل الكريم.



ولكن وجهًا آخر زامن بداياته العلمية، تمثل في خدمته للفكرة العربية والإسلامية الساعية إلى تأصيل الهوية، ولا سيما في حقبة تاريخية كان الصراع فيها مع الصهيونية العالمية شديدًا وعنيفًا، وهو ما يمكن أن نلحظه في كتابيه:

أ- الشخصية الإسرائيلية، وهو الذي ظهر بعد أعقاب هزيمة يونيه 1967م، ونشرته دار المعارف بالقاهرة 1968م.

ب- عبد الله بن مسعود، طبعة دار الشعب 1970م.



وهذان المثالان يُظهران الوجه الحقيقي الذي لم يختفِ للمرحوم الدكتور عبده الراجحي رحمه الله، عالمًا لغويًا منتميًا ومتميزًا، ومفكرًا عربيًا وإسلاميًّا، أنتج ما يدل على اشتباكه مع واقع أمته في غير ما لحظة حرجة من تاريخها المعاصر.



عبده الراجحي.. إنسانية راقية

والذين يعرفون الراحل الكريم يقدِّرون فيه أبوَّته الحانية، وإنسانيته المتدفِّقة، يعرفها كل من تعامل معه، أو عاش في الجو والوسط الجامعي المصري، ومما يُعرف عنه حَدَبه وحنوّه مثلاً على الدكتور الطناحي أيام أزمة ترقِّيه أستاذًا، حتى كتب- وقد كان أحد فاحصي إنتاجه- إنه يقف من أعمال الطناحي (وهو الطالب المتقدم للترقية) موقف التلميذ الذي يتعلم (وهذا موقف أستاذ يحكم)، وهو نبلٌ نادرًا ما نقف على مثال له.



ولقد عرفته أنا شخصيًّا من نحو خمس عشرة سنة، وتوطدت علاقتي به من يوم أن ناقشني لدرجة الدكتوراه، وقد كان حفيًّا ودودًا منقذًا من بعض الشر الذي أريد لي.



وقد كان مقررًا أن أشاركه مناقشة رسالة علمية بكلية الآداب بجامعة جنوب الوادي بقنا، بدعوة من الصديق الكريم الأستاذ الدكتور حمدي بخيت عمران، إلا أنه منذ ما يقرب من شهر هاتف الدكتور حمدي واعتذر له عن عدم استطاعته مناقشة الطالبة بعدما وصلته رسالة واستعدَّ لها فلم يشأْ أن يعطِّلها، في واحدة من دلائل إنسانيته وشفافيته في الوقت معًا رحم الله الراجحي أستاذًا وعالمًا ومجاهدًا وإنسانًا راقيًا ونبيلاً.

----------

* كلية الآداب- جامعة المنوفية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق