السبت، 3 يوليو 2010

اللغة والفوضي والعنف بقلم: نبيل عبدالفتاح

اللغة والفوضي والعنف
بقلم: نبيل عبدالفتاح

أخطر علامات الفوضي قاطبة هي فوضي اللغة وعنف الأفكار الغائمة والآراء المسطحة التي تعتمد علي الانطباعات السانحة‏,‏ وليس المعلومات الدقيقة‏.‏

تنتاب اللغة كنظام للمعاني والدلالات والمجازات‏,‏ موجات من الوهن الشديد في لحظات التدهور الثقافي والسياسي والتعليمي‏,‏ علي نحو ما نشاهده في اللغة الإعلامية والصحفية‏,‏ وفي الخطاب السياسي والديني الشفاهي والمكتوب‏.‏ خذ ما يقوله بعض السياسيين في الحكم والمعارضة في بعض قضايا الجدل العام‏,‏ ويمكنك أن تلاحظ مدي التدهور اللغوي في المفردات والتراكيب والصياغات المكتوبة أو التي تأتي لحظية وعفو الخاطر وهي حالة تعكس وهن العقل والخيال السياسي السائد‏.‏
الركاكة اللغوية والفقر المعلوماتي‏,‏ وعدم الاحتفاء بالبلاغة السياسية لدي بعضهم هي الوجه الآخر للضعف اللغوي‏.‏ في اللحظات التاريخية التي يسودها سلطان العقل وسلطة المثقف والأكاديمي الحر‏,‏ تنطلق الحريات الفكرية والبحثية وتتطور اللغة وآدابها‏,‏ ويغدو السوق اللغوي مترعا بالثراء في الإنتاج اللغوي‏,‏ وفي إبداع المصطلحات التي توصف الظواهر وتكثفها في بلاغة ودقة وأناقة لغوية واقتصاد دال في المعني‏.‏ اللغة ليست فقط محض وسيلة للتعبير‏,‏ وإنما اللغة هي إنتاج للعالم في مناح شتي‏,‏ في لغة الخاصة من الصفوة‏,‏ ولغة الجمهور وآحاد الناس في الحياة اليومية وفي فضاءات الوظيفة العامة‏,‏ وفي القطاع الخاص‏,‏ وفي الحافلات العامة‏,‏ والشارع‏,‏ وكافة مجالات ومناشط السلوك والفعل الإنساني اليومي‏.‏ من لغة اليومي ومفرداتها وتراكيبها يمكنك أن تتعرف علي مواطن الإبداع والخلل معا في حياة شعب ما ومدي نصيبه من التطور أو التخلف‏,‏ وماهية الأزمات التي تحيط به‏.‏ من المحادثات الشفاهية بين الأشخاص بعضهم بعضا‏,‏ وفي عديد المواقف اليومية يمكنك أن تتعرف علي مدي قدرة الشخص‏_‏ ولا أقول الفرد في الحالة السوسيو‏/‏ لغوية المصرية‏_‏ أو المجموعة في التعبير عن نفسها‏,‏ أو ما يجول في عقلها ووجدانها من أفكار أو مشاعر تريد التعبير عنها‏.‏ يمكنك أن تشعر بالصدمة والخوف والخطر علي العقل الجمعي من مجرد ملاحظة حالة الغموض والابتسار والتناقض وعدم قدرة الشخص أو المجموعة عن التعبير الصحيح عن الرأي‏,‏ أو التعبير الدقيق عن طلب ما‏,‏ أو مشاعر ما إزاء موقف أو رأي أو فعل آخر‏.‏ ما يحدث في البيئة اللغوية المصرية اليومية‏_‏ إذا جاز التعبير وساغ‏_‏ من تعبيرات ومفردات وآراء وأساليب اتصالية‏,‏ ينطوي علي مفارقات تعبيرية تدعو أحيانا للضحك‏,‏ وأحيانا أخري للأسي والحزن الشديد‏.‏
يبدو أن المفارقات التي تنطوي عليها المواقف اللغوية والتعبيرية للأشخاص في الحياة اليومية دفعت بعض مؤلفي ومعدي البرامج إلي تحويل هذه المواقف وردود الأشخاص ولاسيما بعض المتعلمين‏-‏ والأحري غالبهم في أيامنا‏-‏ إلي موضوع للبرامج التلفازية التي تظهر غياب الثقافة العامة والمعلومات الأساسية وركاكة اللغة‏,‏ وعدم قدرة بعضهم علي التعبير عن نفسه أو ما يجول في ذهنه من رأي‏,‏ أو ما يجيش به وجدانه من شعور‏.‏ برامج رمت إلي الكشف عن حالة ضعف اللغة العربية في حياتنا‏,‏ وهو ما يشير إلي حقائق صادمة علي تراجع مستوي التعليم وضعفه الشديد‏,‏ وتدهور مستويات الوعي السياسي أو الاجتماعي أو التاريخي لدي فئات اجتماعية ومهنية عديدة في بلادنا‏.‏
ضعف اللغة وأساليب التعبير اللغوي لدي الجمهور وآحاد الناس هي الوجه الآخر لمشاكل تربوية واجتماعية وسياسية‏,‏ وهي نتاج لاستقالة وسائل الإعلام الجماهيري التقليدية‏,‏ عن القيام بدورها في الارتقاء بمستويات اللغة التي تقدم بها برامجها علي اختلافها للقواعد الاجتماعية العريضة من مستهلكي برامجها‏,‏ ولاسيما المرئية‏.‏
قد يظن بعضهم أن الارتقاء بالذائقة اللغوية للجمهور‏,‏ يعني التفاصح‏,‏ واستخدام المفردات المهجورة أو أساليب التعبير الصعبة‏,‏ علي نحو يؤدي إلي عدم قدرة الرسالة الإعلامية علي الوصول إلي متلقيها‏.‏ بالقطع ثمة تمايز بين اللغة العربية الواضحة والسلسة والبسيطة‏,‏ وبين اللغة العصماء والتراكيب المعقدة التي مجالها الكتابة الأكاديمية أو كتابات المثقفين لبعضهم بعضا‏.‏ نحن نتحدث عن اللغة الوسيطة‏,‏ بين لغة الخاصة ولغة الجمهور‏,‏ والأحري السعي إلي بلاغة البساطة‏,‏ حيث السلاسة والتدفق اللغوي‏,‏ وبساطة التعبير وجمالياته‏,‏ ووضوحه الدلالي‏.‏
للأسف هيمنت لغة عامية دهماوية علي خطاب بعضهم التلفازي والإذاعي‏,‏ ومن ثم لا تستطيع أن تفهم ما الذي يريده مقدم البرامج المرئية أو مذيع البرامج المسموعة بل تخرج اللغة في بعض الأحيان عن نطاق التهذب اللغوي‏.‏ احتلت لغة الشارع المنفلتة لغة بعضهم في بعض برامج الفضائيات‏,‏ ومن الملاحظ أنها أصبحت لغة متفجرة بالعنف والمشاعر المحتقنة‏,‏ ومن ثم باتت أقرب إلي لغة فورات الغضب السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو العرقي‏,‏ وليست لغة تفكير ساعية إلي إنتاج المعاني والمطالب والمصالح المشروعة والواضحة‏.‏
ساعدت لغة الفضائيات العنيفة علي اتساع العنف اللغوي‏,‏ ولغة التعميمات والخلط بين الانطباعات والرأي المؤسس علي المعلومات والحجج والبحوث العلمية‏,‏ والدراسات الميدانية حول القضايا والموضوعات التي يجري حولها النقاش‏.‏
بعض المتعلمين والمهنيين يتصورون أن حريتهم في إبداء آراءهم ـ وهذا حق دستوري لا شبهة حول حق كل الناس في التمتع به ـ‏,‏ وبين فرض انطباعات تفتقر إلي التخصص ولغته واصطلاحاته‏,‏ والأخطر الحد الأدني من أصوله كي يجعل الرأي حاملا لصفته‏.‏ الغريب أن بعض هؤلاء يتصورون أن الصوت العالي والعنف حق لهم في إبداء انطباعاتهم غير المتخصصة‏,‏ أو آراءهم المكررة في غالب المواقف والقضايا والندوات والبرامج‏'‏ الحوارية‏'!‏
هذا النمط‏_‏ أصبح هكذا‏_‏ بات شائعا في سوق الندوات والمؤتمرات‏,‏ والأخطر أن بعضهم يطرح انطباعاته الخاطئة دون أن يستمع لرأي أهل التخصص والمعرفة من الحاضرين‏,‏ ومن ثم يبدو هذا النمط من لغة اللغو حاملا لعنف حاد يؤثر علي بيئة الحوار والتواصل بين الخبراء أو الباحثين‏.‏ ظاهرة اعتلال‏,‏ وربما تعود إلي ضعف تقاليد الحوار‏,‏ وتراجع مستويات اللغة‏,‏ والخلط بين حرية التعبير السياسي والمهني والفئوي داخل المنظمات النقابية والروابط والجمعيات‏,‏ وبين مناطحة أهل التخصص والعلم في تخصصاتهم بغير معرفة‏.‏
من مظاهر الخلط بين الحق في التعبير وإبداء الرأي للمواطن في الدولة الحديثة‏,‏ وبين سعي بعضهم من غير المتخصصين في الآداب والفنون واللغات والأساليب السردية‏_‏ في الشعر والرواية والقصة‏..‏ إلخ‏_‏ في فرض آرائهم الفكرية أو الدينية الفقهية أو اللاهوتية أو التأويلية أو الأخلاقية وأحكامهم القيمية علي بعض السرديات‏,‏ دونما سند من لغة التخصص النقدي‏.‏
ما دلالة هذه الظاهرة التي باتت شائعة؟ بوضوح ثمة بعض من غير المتخصصين يحاولون السيطرة الرمزية والسياسية‏_‏ ذات السند الديني التأويلي الوضعي‏_‏ علي الإنتاج السردي والفيلمي في عديد تجلياته‏,‏ والأخطر خلط بعضهم عن عمد أو دونما قصد بين لغة ومنطق السرد التخييلي‏,‏ وبين لغة الواقع‏,‏ وهي نظرة بسيطة تم تجاوزها في النقد وتحليلاته‏,‏ وفي السرد واستراتيجياته‏,‏ وتقنياته وآلياته‏.‏ ثمة فارق مائز بين لغة الواقع اليومي المعاش ولغة السرد‏,‏ لأن السرد حول اليومي ليس إعادة إنتاج له كما يتصور بعضهم‏,‏ وذلك حتي ولو اتخذ الكاتب موضوعه من بعض التفاصيل والجزئيات انطلاقا من المشهد اليومي ولغته وحواسه الفواحة والمترعة بالدنس والآثام‏,‏ والإبداعات والتشوهات والاختلاطات بين أخلاقيات اليومي وتناقضاتها وجمالياتها‏.‏ اليومي والمشهدي والجزئي ـ أيا كان حظه من التطهر أو الدنس ـ في السرديات الجديدة‏_‏ وما قبلها وما بعدها ـ ليس هو بذاته ما حدث ويحدث في الواقع اليومي‏,‏ إنه شيء آخر تماما لغة ورؤية ومجازا‏,‏ ومن ثم لا يصلح لأن نطلق عليه الأحكام القيمية المستمدة من الثنائيات الضدية الشائعة في لغة الجمهور‏,‏ أو بعض الساسة‏,‏ أو رجال الدين‏.‏
هذا النمط من الخلط بين لغة الخطاب النقدي ومقارباته المنهجية والتحليلية‏,‏ وبين لغة بعض رجال الدين أو غير المتخصصين‏,‏ تشيع الفوضي والعنف اللغوي وتراجع العقل في الحياة الفكرية في بلادنا‏,‏ وتفرض قيودا علي سلطان العقل‏,‏ والإبداع‏,‏ بما يؤثر سلبا علي مقومات القوة الناعمة لمصر في إقليمها علي نحو ما نشاهده من تراجع كبير في العقود الأخيرة باستثناءات قليلة في السرد الروائي‏,‏ وإنتاج بعض من كبار المثقفين والنقاد والباحثين‏.‏
يمكنك أن تلاحظ أيضا تراجع بعض المستويات اللغوية لبعض الدعاة في خطابهم علي بعض الفضائيات الدينية‏,‏ أو في كتابات بعضهم‏,‏ حيث يشيع تصور لدي بعضهم أن بعض معرفته الدينية‏/‏ الفقهية واللاهوتية النقلية التي يعيد تكرارها‏,‏ تعني أنه قادر علي الافتاء في جميع القضايا والمشاكل والأمور دونما تخصص وظيفي ومهني وفني فيما يتناوله من أمور‏,‏ وأنه يكفي لتسويغ رأيه الافتائي أن يشير إلي بعض المرويات والمأثورات الشعبية الشائعة‏,‏ أو بعض ما يرد في الصحف من أخبار أو نقول أو ما يشاع عنها لدي بعض الجمهور‏.‏ يمكنك أن تلاحظ أيضا مستوي التراجع اللغوي لبعضهم وقارن بينه‏,‏ وبين بلاغة ورصانة بعض من كبار رجال الفقه والدعوة وأصول الدين أو اللاهوت ممن لعبوا دورا هاما في تطور المعرفة الدينية الإسلامية والمسيحية في بلادنا‏,‏ في مرحلة تطورها الاجتماعي والسياسي والصناعي‏.‏ التدهور اللغوي لدي بعضهم في خطابه الديني هو الوجه الآخر لفوضي اللغة واختلاط مجالات التخصص‏,‏ ونزعة وسلطة الافتاء في كل شيء من الجمهور‏,‏ ومن بعض رجال الدين الإسلامي والمسيحي‏,‏ وهو ما يشير إلي تراجع مستوي المعرفة والوعي لدي غالب الجمهور‏.‏
لغة الفوضي هي أحد وجوه فوضي اللغة‏,‏ والفوضي في الحياة اليومية واضطراب الحياة الروحية والدينية لغالب المصريين‏,‏ والفوضي والفساد في السياسة‏,‏ وضعف الوازعات الخلقية والقانونية‏,‏ والتفسخ الاجتماعي والفساد في اللغة‏,‏ ولغة الفساد‏,‏ وشيوع العنف في الواقع‏,‏ والعنف في اللغة وبها وتأثيره السلبي رالخطير علي حياتنا‏!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق