اللغة والفوضي والعنف
بقلم: نبيل عبدالفتاح
أخطر علامات الفوضي قاطبة هي فوضي اللغة وعنف الأفكار الغائمة والآراء المسطحة التي تعتمد علي الانطباعات السانحة, وليس المعلومات الدقيقة.
تنتاب اللغة كنظام للمعاني والدلالات والمجازات, موجات من الوهن الشديد في لحظات التدهور الثقافي والسياسي والتعليمي, علي نحو ما نشاهده في اللغة الإعلامية والصحفية, وفي الخطاب السياسي والديني الشفاهي والمكتوب. خذ ما يقوله بعض السياسيين في الحكم والمعارضة في بعض قضايا الجدل العام, ويمكنك أن تلاحظ مدي التدهور اللغوي في المفردات والتراكيب والصياغات المكتوبة أو التي تأتي لحظية وعفو الخاطر وهي حالة تعكس وهن العقل والخيال السياسي السائد.
الركاكة اللغوية والفقر المعلوماتي, وعدم الاحتفاء بالبلاغة السياسية لدي بعضهم هي الوجه الآخر للضعف اللغوي. في اللحظات التاريخية التي يسودها سلطان العقل وسلطة المثقف والأكاديمي الحر, تنطلق الحريات الفكرية والبحثية وتتطور اللغة وآدابها, ويغدو السوق اللغوي مترعا بالثراء في الإنتاج اللغوي, وفي إبداع المصطلحات التي توصف الظواهر وتكثفها في بلاغة ودقة وأناقة لغوية واقتصاد دال في المعني. اللغة ليست فقط محض وسيلة للتعبير, وإنما اللغة هي إنتاج للعالم في مناح شتي, في لغة الخاصة من الصفوة, ولغة الجمهور وآحاد الناس في الحياة اليومية وفي فضاءات الوظيفة العامة, وفي القطاع الخاص, وفي الحافلات العامة, والشارع, وكافة مجالات ومناشط السلوك والفعل الإنساني اليومي. من لغة اليومي ومفرداتها وتراكيبها يمكنك أن تتعرف علي مواطن الإبداع والخلل معا في حياة شعب ما ومدي نصيبه من التطور أو التخلف, وماهية الأزمات التي تحيط به. من المحادثات الشفاهية بين الأشخاص بعضهم بعضا, وفي عديد المواقف اليومية يمكنك أن تتعرف علي مدي قدرة الشخص_ ولا أقول الفرد في الحالة السوسيو/ لغوية المصرية_ أو المجموعة في التعبير عن نفسها, أو ما يجول في عقلها ووجدانها من أفكار أو مشاعر تريد التعبير عنها. يمكنك أن تشعر بالصدمة والخوف والخطر علي العقل الجمعي من مجرد ملاحظة حالة الغموض والابتسار والتناقض وعدم قدرة الشخص أو المجموعة عن التعبير الصحيح عن الرأي, أو التعبير الدقيق عن طلب ما, أو مشاعر ما إزاء موقف أو رأي أو فعل آخر. ما يحدث في البيئة اللغوية المصرية اليومية_ إذا جاز التعبير وساغ_ من تعبيرات ومفردات وآراء وأساليب اتصالية, ينطوي علي مفارقات تعبيرية تدعو أحيانا للضحك, وأحيانا أخري للأسي والحزن الشديد.
يبدو أن المفارقات التي تنطوي عليها المواقف اللغوية والتعبيرية للأشخاص في الحياة اليومية دفعت بعض مؤلفي ومعدي البرامج إلي تحويل هذه المواقف وردود الأشخاص ولاسيما بعض المتعلمين- والأحري غالبهم في أيامنا- إلي موضوع للبرامج التلفازية التي تظهر غياب الثقافة العامة والمعلومات الأساسية وركاكة اللغة, وعدم قدرة بعضهم علي التعبير عن نفسه أو ما يجول في ذهنه من رأي, أو ما يجيش به وجدانه من شعور. برامج رمت إلي الكشف عن حالة ضعف اللغة العربية في حياتنا, وهو ما يشير إلي حقائق صادمة علي تراجع مستوي التعليم وضعفه الشديد, وتدهور مستويات الوعي السياسي أو الاجتماعي أو التاريخي لدي فئات اجتماعية ومهنية عديدة في بلادنا.
ضعف اللغة وأساليب التعبير اللغوي لدي الجمهور وآحاد الناس هي الوجه الآخر لمشاكل تربوية واجتماعية وسياسية, وهي نتاج لاستقالة وسائل الإعلام الجماهيري التقليدية, عن القيام بدورها في الارتقاء بمستويات اللغة التي تقدم بها برامجها علي اختلافها للقواعد الاجتماعية العريضة من مستهلكي برامجها, ولاسيما المرئية.
قد يظن بعضهم أن الارتقاء بالذائقة اللغوية للجمهور, يعني التفاصح, واستخدام المفردات المهجورة أو أساليب التعبير الصعبة, علي نحو يؤدي إلي عدم قدرة الرسالة الإعلامية علي الوصول إلي متلقيها. بالقطع ثمة تمايز بين اللغة العربية الواضحة والسلسة والبسيطة, وبين اللغة العصماء والتراكيب المعقدة التي مجالها الكتابة الأكاديمية أو كتابات المثقفين لبعضهم بعضا. نحن نتحدث عن اللغة الوسيطة, بين لغة الخاصة ولغة الجمهور, والأحري السعي إلي بلاغة البساطة, حيث السلاسة والتدفق اللغوي, وبساطة التعبير وجمالياته, ووضوحه الدلالي.
للأسف هيمنت لغة عامية دهماوية علي خطاب بعضهم التلفازي والإذاعي, ومن ثم لا تستطيع أن تفهم ما الذي يريده مقدم البرامج المرئية أو مذيع البرامج المسموعة بل تخرج اللغة في بعض الأحيان عن نطاق التهذب اللغوي. احتلت لغة الشارع المنفلتة لغة بعضهم في بعض برامج الفضائيات, ومن الملاحظ أنها أصبحت لغة متفجرة بالعنف والمشاعر المحتقنة, ومن ثم باتت أقرب إلي لغة فورات الغضب السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو العرقي, وليست لغة تفكير ساعية إلي إنتاج المعاني والمطالب والمصالح المشروعة والواضحة.
ساعدت لغة الفضائيات العنيفة علي اتساع العنف اللغوي, ولغة التعميمات والخلط بين الانطباعات والرأي المؤسس علي المعلومات والحجج والبحوث العلمية, والدراسات الميدانية حول القضايا والموضوعات التي يجري حولها النقاش.
بعض المتعلمين والمهنيين يتصورون أن حريتهم في إبداء آراءهم ـ وهذا حق دستوري لا شبهة حول حق كل الناس في التمتع به ـ, وبين فرض انطباعات تفتقر إلي التخصص ولغته واصطلاحاته, والأخطر الحد الأدني من أصوله كي يجعل الرأي حاملا لصفته. الغريب أن بعض هؤلاء يتصورون أن الصوت العالي والعنف حق لهم في إبداء انطباعاتهم غير المتخصصة, أو آراءهم المكررة في غالب المواقف والقضايا والندوات والبرامج' الحوارية'!
هذا النمط_ أصبح هكذا_ بات شائعا في سوق الندوات والمؤتمرات, والأخطر أن بعضهم يطرح انطباعاته الخاطئة دون أن يستمع لرأي أهل التخصص والمعرفة من الحاضرين, ومن ثم يبدو هذا النمط من لغة اللغو حاملا لعنف حاد يؤثر علي بيئة الحوار والتواصل بين الخبراء أو الباحثين. ظاهرة اعتلال, وربما تعود إلي ضعف تقاليد الحوار, وتراجع مستويات اللغة, والخلط بين حرية التعبير السياسي والمهني والفئوي داخل المنظمات النقابية والروابط والجمعيات, وبين مناطحة أهل التخصص والعلم في تخصصاتهم بغير معرفة.
من مظاهر الخلط بين الحق في التعبير وإبداء الرأي للمواطن في الدولة الحديثة, وبين سعي بعضهم من غير المتخصصين في الآداب والفنون واللغات والأساليب السردية_ في الشعر والرواية والقصة.. إلخ_ في فرض آرائهم الفكرية أو الدينية الفقهية أو اللاهوتية أو التأويلية أو الأخلاقية وأحكامهم القيمية علي بعض السرديات, دونما سند من لغة التخصص النقدي.
ما دلالة هذه الظاهرة التي باتت شائعة؟ بوضوح ثمة بعض من غير المتخصصين يحاولون السيطرة الرمزية والسياسية_ ذات السند الديني التأويلي الوضعي_ علي الإنتاج السردي والفيلمي في عديد تجلياته, والأخطر خلط بعضهم عن عمد أو دونما قصد بين لغة ومنطق السرد التخييلي, وبين لغة الواقع, وهي نظرة بسيطة تم تجاوزها في النقد وتحليلاته, وفي السرد واستراتيجياته, وتقنياته وآلياته. ثمة فارق مائز بين لغة الواقع اليومي المعاش ولغة السرد, لأن السرد حول اليومي ليس إعادة إنتاج له كما يتصور بعضهم, وذلك حتي ولو اتخذ الكاتب موضوعه من بعض التفاصيل والجزئيات انطلاقا من المشهد اليومي ولغته وحواسه الفواحة والمترعة بالدنس والآثام, والإبداعات والتشوهات والاختلاطات بين أخلاقيات اليومي وتناقضاتها وجمالياتها. اليومي والمشهدي والجزئي ـ أيا كان حظه من التطهر أو الدنس ـ في السرديات الجديدة_ وما قبلها وما بعدها ـ ليس هو بذاته ما حدث ويحدث في الواقع اليومي, إنه شيء آخر تماما لغة ورؤية ومجازا, ومن ثم لا يصلح لأن نطلق عليه الأحكام القيمية المستمدة من الثنائيات الضدية الشائعة في لغة الجمهور, أو بعض الساسة, أو رجال الدين.
هذا النمط من الخلط بين لغة الخطاب النقدي ومقارباته المنهجية والتحليلية, وبين لغة بعض رجال الدين أو غير المتخصصين, تشيع الفوضي والعنف اللغوي وتراجع العقل في الحياة الفكرية في بلادنا, وتفرض قيودا علي سلطان العقل, والإبداع, بما يؤثر سلبا علي مقومات القوة الناعمة لمصر في إقليمها علي نحو ما نشاهده من تراجع كبير في العقود الأخيرة باستثناءات قليلة في السرد الروائي, وإنتاج بعض من كبار المثقفين والنقاد والباحثين.
يمكنك أن تلاحظ أيضا تراجع بعض المستويات اللغوية لبعض الدعاة في خطابهم علي بعض الفضائيات الدينية, أو في كتابات بعضهم, حيث يشيع تصور لدي بعضهم أن بعض معرفته الدينية/ الفقهية واللاهوتية النقلية التي يعيد تكرارها, تعني أنه قادر علي الافتاء في جميع القضايا والمشاكل والأمور دونما تخصص وظيفي ومهني وفني فيما يتناوله من أمور, وأنه يكفي لتسويغ رأيه الافتائي أن يشير إلي بعض المرويات والمأثورات الشعبية الشائعة, أو بعض ما يرد في الصحف من أخبار أو نقول أو ما يشاع عنها لدي بعض الجمهور. يمكنك أن تلاحظ أيضا مستوي التراجع اللغوي لبعضهم وقارن بينه, وبين بلاغة ورصانة بعض من كبار رجال الفقه والدعوة وأصول الدين أو اللاهوت ممن لعبوا دورا هاما في تطور المعرفة الدينية الإسلامية والمسيحية في بلادنا, في مرحلة تطورها الاجتماعي والسياسي والصناعي. التدهور اللغوي لدي بعضهم في خطابه الديني هو الوجه الآخر لفوضي اللغة واختلاط مجالات التخصص, ونزعة وسلطة الافتاء في كل شيء من الجمهور, ومن بعض رجال الدين الإسلامي والمسيحي, وهو ما يشير إلي تراجع مستوي المعرفة والوعي لدي غالب الجمهور.
لغة الفوضي هي أحد وجوه فوضي اللغة, والفوضي في الحياة اليومية واضطراب الحياة الروحية والدينية لغالب المصريين, والفوضي والفساد في السياسة, وضعف الوازعات الخلقية والقانونية, والتفسخ الاجتماعي والفساد في اللغة, ولغة الفساد, وشيوع العنف في الواقع, والعنف في اللغة وبها وتأثيره السلبي رالخطير علي حياتنا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق