السبت، 3 يوليو 2010

عبده الراجحي‏..‏ حبة أخرى تنفرط‏!‏ بقلم: د‏.‏ سليمان عبد المنعم

عبده الراجحي‏..‏ حبة أخرى تنفرط‏!‏

بقلم: د‏.‏ سليمان عبد المنعم
................................

برحيل العالم الجليل الدكتور عبده الراجحي‏(1937-2010)‏ أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الاسكندرية وعضو مجمع اللغة العربية تنفرط حبة أخري من العقد الفريد لجيل الرواد في جامعات مصر‏.‏
انتقل عبده الراجحي من دنيا الصخب والعراك والضجيج في زمن تبدل المعايير وانقلاب القيم الي دار الحق في مشهد أصبح معروفا متكررا رتيبا‏..‏ عالم جليل ومرب فاضل وهب حياته للعلم في صمت وسخاء يرحل في هدوء وصمت وكأنه لا يود إزعاج أحد‏!‏ مثل الكثيرين من العلماء الأصلاء لم يهتم عبده الراجحي بالاعلام والأضواء ولم يكترث بفنون العلاقات العامة التي جعلت من هم أقل منه شأنا وعلما يحظون بشهرة واهتمام لم ينل منهما العالم الجليل أقل القليل‏.‏
أخلص الراحل الكبير يرحمه الله لتخصصه العلمي في اللغة العربية فكان أحد حماتها المهمومين باغترابها‏,‏ وكان علم النحو شغفه الكبير‏.‏ قدم للمكتبة العربية مؤلفات رصينة في‏'‏ التطبيق النحوي‏',‏ و‏'‏التطبيق الصرفي‏',‏ و‏'‏المذاهب النحوية‏'‏ و‏'‏اللهجات العربية والقراءات القرآنية‏',‏ و‏'‏فقه اللغة في الكتب العربية‏'.‏ وبرز اهتمامه في العشرين عاما الأخيرة بقضية تعليم اللغات وما تواجهه اللغة العربية من تحديات في عصر المعرفة فكتب عن‏'‏ اللغة وعلوم المجتمع‏',‏ و‏'‏علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية‏',‏ و‏'‏أسس تعليم اللغات الأجنبية وتعلمها‏'.‏ ولم يكن اهتمامه باللغة العربية لغير الناطقين بها مقتصرا فقط علي الجوانب النظرية فانشأ في جامعة الاسكندرية مركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها‏.‏وكانت له في هذا أحلام عريضة لم يسعفه الزمن لتحقيقها علي الرغم من دأبه ومثابرته‏.‏
ولم يحصر العالم الجليل نفسه في أسر تخصصه العلمي بل سعي للانشغال بقضايا عصره وأمته فكان أحد الذين تأثروا بمقولة الراحل العظيم المفكر السياسي الكبير أحمد بهاء الدين‏'‏ اعرف عدوك‏'‏ فأصدر كتابه عن‏'‏ الشخصية الاسرائيلية‏'‏ بعد عام واحد من نكسة عام‏.1967‏ كان عبده الراجحي أكاديميا معطاء أشرف علي نحو مائة رسالة ماجستير ودكتوراه في العلوم اللغوية كان للفكر النحوي منها عدد كبير حتي أصبح صاحب مدرسة علمية قوامها الآلاف من تلاميذه في مصر وخارج مصر منهم اليوم اساتذة مرموقون‏.‏
كان الراحل الكبير الدكتور عبده الراجحي متحدثا بارعا لبقا يمتلك ناصية الحديث‏,‏ حاضر المعلومة والدعابة‏,‏ يتعجب المرء كيف لم يستطع إعلامنا الذي يملأ السماوات صخبا أن يصل الي هذا العالم الجليل متنوع الثقافة واسع الآفاق ليستفيد منه الناس ؟ وككل العلماء من ذوي الكبرياء والاعتزاز بتخصصهم العلمي لم ينشغل عبده الراجحي بغير العلم واللغة العربية ولم يخطب ود غيرهما‏!!‏ كان للمرحوم حضوره المميز والمؤثر في الأوساط العلمية والأكاديمية خارج مصر‏,‏ فكان سفيرا حقيقيا لبلاده دون أن يدخل باب سفارة قط‏!!‏ عمل عميدا لكلية الآداب في جامعة بيروت العربية‏,‏ كما عمل في جامعة الامام محمد بن سعود‏,‏ وجامعة إرلانجن في ألمانيا وجامعات لندن واكسفورد واكستر في بريطانيا‏,‏ وجامعة موسكو‏,‏ والعديد من الجامعات الآسيوية في ماليزيا وأوزباكستان وتتارستان‏.‏ تجول في أروقة هذه الجامعات العريقة وحاضر فيها دفاعا عن لغة الضاد التي وهب حياته لها‏.‏
وكان وراء هذا التاريخ العلمي الحافل شخصية انسانية بسيطة وآسرة‏.‏ وكان العالم الجليل يتمتع بصلابة نفسية لعله كان يحمي بها نفسه من تطفل الآخرين وإزعاجهم‏.‏ كأن أغرب مشهد مثير للحزن والدهشة في اللقاءات القليلة التي جمعتني بالراحل الكبير ما حدث ذات يوم في لبنان‏.‏ كنا نتناول طعام الغداء تلبية لدعوة صديق لبناني في منطقة جبلية هادئة وخلابة في صحبة د‏.‏ عمرو جلال العدوي رئيس جامعة بيروت العربية وبعض الزملاء الأساتذة‏.‏ وكان المرحوم د‏.‏ عبده الراجحي هو نجم هذه الجلسة بحديثه المتدفق وحكاياته الراقية المتنوعة التي لا تنتهي‏.‏ وفجأة تلقي اتصالا هاتفيا يخبره بوفاة ابنه الأكبر الذي كان يعمل طبيبا ناجحا في المانيا‏.‏ توفي الجراح الشاب الماهر في ذروة شبابه وتألقه المهني‏.‏ كان رد فعل الخبر الفاجعة علي الأب المكلوم مثيرا للانتباه والدهشة ولا أحسب أنني شاهدت موقفا بتفرده حتي اليوم إذ لاذ بالصمت تماما وقد وضع نظارته السوداء علي عينيه وكأنه يحتمي بها من تطفلنا‏..‏ بينما كنا نهبط الجبل بالسيارة لم يرد علي تساؤلات أحد‏..‏ بدا أنه يتمتم بآيات قرآنية وكأنه لا يريد لأحد أن يقطع خلوته الروحية أو يشتت حزنه النبيل‏.‏ طلب سيارة تقله الي مطار بيروت حيث كانت هناك طائرة تقلع لحسن الحظ بعد ساعات قليلة‏.‏ حاولت في رفق أن افتح حديثا معه علني أخفف عنه دون جدوي‏.‏ عرضنا عليه أن نصحبه الي المطار حتي موعد إقلاع الطائرة لكن اعتذر بكلمات مقتضبة كسيرة‏.‏ كان واضحا أن كل ما يريده الرجل هو أن يخلو الي نفسه‏..‏ احترمنا رغبته وانحنينا أمام طقوس حزنه الفريد‏.‏
بعد عام تقريبا من هذه المناسبة الأليمة التقيته مصادفة عند باب احدي مكتبات بيع الصحف في شارع الحمراء في بيروت حيث كان يعمل أستاذا زائرا لعدة أشهر‏.‏ تجاذبنا سريعا أطراف الحديث‏.‏ قلت له لا أراك هذه الأيام وأنا أمارس رياضة المشي في الصباح المبكر في طريق الكورنيش‏.‏ رد قائلا إنني أفضل ممارسة رياضة المشي في المساء حتي أتفرغ في الصباح الباكر لأعمالي الذهنية في الكتابة والقراءة‏!‏ سكت لحظة ثم أردف قائلا ساعات الصباح الأولي لدي وقت ثمين هو الأجدر بنشاطي الذهني‏!‏ قال ذلك وهو الذي تجاوز السبعين‏..‏ لكن بقي العلم هو انشغاله الأكبر‏..‏ إنها الملامح ذاتها لجيل من الرواد في مصر‏..‏ يرحلون في صمت واحدا تلو الآخر‏,‏ تاركين لنا الوحشة والفراغ والسؤال الكبير‏:‏ تري هل يجود الزمن علينا بأمثال هؤلاء العظام ؟
.............................................
*الأهرام ـ في 10/5/2010م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق