السبت، 23 أكتوبر 2010

معلم الضوء

سنقدم هنا نموذجاً يمكن تسميته بمعلم الضوء. يمكننا أن نفهم نموذج هذا المعلم من خلال قراءة وتحليل قصة إنسانية، تمثل علاقة خاصة جمعت بين معلم وتلميذته الصغيرة. حظيت هذه القصة، باهتمام عدد كبير من الفنانين والمخرجين العالميين. تم تصويرها بأكثر من لغة ومثلت في أكثر من ثقافة، كان آخرها الفيلم الهندي (BLACK) الذي أنتج في العام 2005 ولاقى نجاحاً كبيراً على المستوى العالمي. ما هي القيمة الإنسانية التي تقدمها هذه القصة لتحظى بكل هذا الاهتمام؟
في هذه القصة يبني المعلم علاقة مختلفة بتلميذة مختلفة. يسحب المعلم تلميذته (العمياء والصماء والخرساء) من الظلمة الحالكة التي تعيشها إلى حيث الضوء. ينطلق بها من حيث السواد الذي يلف حياتها إلى النور. يخلق لها عينين داخل عينيها السوداويين. يجعلها ترى العالم بحاستها وروحها وقلبها وعقلها. يمكِّنها أن تبني مفاهيمها المتفردة للأشياء. أن تصيغ رؤيتها الخاصة للأشياء. أن تعبر نحو عالمها وتنسجم معه وتتعايش معه على نحو لا يتمكنه الآخرون.
لم تكن رحلة المعلم مع تلميذته سهلة، بل مؤرقة ومنهكة ومتعبة ومكلفة. كانت تحدياً عاشه كل من المعلم والتلميذة. لكنه كان مؤمناً بقدرته على أن يهب تلك الروح الهائمة جناحين تطيران بهما.
سنتعرض هنا لجوانب من هذه القصة، وسنرى كيف صارت ميشيل –الطفلة العمياء- تفتخر بمعلمها (معلم الضوء)، وكيف صارت تعرفه وتراه، وكيف صارت تقدِّمه وتعرفه للآخرين: "كطفلة كنت دائماً أبحث عن شيء، لكنني كنت أنتهي إلى تلك الظلمة الحالكة. يوماً ما وضعتني أمي بين تلك اليدين المجهولتين. لقد كان مختلفاً عن الآخرين. كان ساحراً. لسنوات طويلة واصل سحبي من العتمة إلى الضياء. عندما نقف أمام الرب، كل واحد فينا أعمى. فلا واحد منا قد رآه أو سمعه يوماً. لكن أنا لمسته وأحسست بوجوده. وأسميته معلم. بالنسبة لي كان كل شيء أسود. لكن معلمي علمني معان جديدة للون الأسود. فالأسود ليس مجرد العتمة والاختناق. بل هو لون النجاح أيضاً والمنجزات. هو لون رداء التخرج الذي نتقاسمه اليوم. لكن بيني وبينكم فرق كبير. أنتم ترتدون هذا الرداء لتحتفلوا بتخرجكم. لكن بالنسبة لي، ليكون معلمي هو أول من يراني بالرداء الأسود. كنا نأتي حفل التخرج كل عام، ونقف عند الباب، وكل عام يكتب على يدي: أريد أن أراك يوماً على هذه المنصة يا ميشيل. تطلب الأمر مني أربعين عاماً كي أحقق حلمه، واليوم فقط أشعر بعجزي عن الرؤية. لأني أرغب في أن أرى معلمي واقفاً عند الباب. يشاهدني وأنا أحقق حلمنا بفخر".
كانت تلك الكلمات التي ارتجلتها ميشيل (بإشاراتها ورموزها الخاصة) في حفل تخرجها من الجامعة. ألقتها وسط زملائها ومعلميها وأولياء أمور الطلبة والحاضرين. فما هي حكاية ميشيل، وما قصتها؟
ميشيل مولودة بكر لعائلة ثرية، ولدت لتجد نفسها تعيش في سواد وصمم أبدي. لا ترى الطفلة غير لون واحد: السواد. لا تسمع الطفلة غير صوت واحد: طينين الصمم. تعيش الطفلة وحدها في تابوها المغلق. تستوحش. ما العالم؟ هل يمكن أن يكون العالم ذلك الشيء الأسود الذي تراه ميشيل؟ ما جدوى العالم إن لم يكن كثيراً بالألوان متعدداً بالأصوات؟ ما معنى العالم إن لم يكن يهدي لنا في كل يوم لون جديد ومشهد جديد وشروق جديد وغروب جديد وصوت جديد وكلمة جديدة ومعرفة جديدة وتعريف جديد وحضور جديد. لم يكن في حياة ميشيل أي جديد، لأنه لا قديم في حياتها أصلاً، اللحظات متساوية كما الساعات كما الأيام كما السنوات. لم تكن حياتها غير وحشة أن تكون في لون وحدك.
تكبر ميشيل في بيت يتعاطف مع صندوقها المظلم الذي تعيش فيه، لكنه لا يجيد إعانتها على الرؤية خارجه. يهيأها (دون أن يقصد) إلى الإيغال في السواد أكثر. كلما تعاطفت الأسرة مع صندوق ظلامها أكثر، كلما غابت ميشيل في لونها الواحد. كلما توحشت أخلاقها. أصبحت روحاً هائمة لا يمكن السيطرة عليها. صارت كائنا متوحشاً في جسد إنسان. الانسان يكتسي إنسانيته من الضوء الذي به يرى تعدد الأشياء. بهذا يتمايز عن غيره من الكائنات. يعدد الضوء الصور في مدار الانسان فيتسع فيها. يجعل لكل شيء إسماً. بالأسماء تعرف الأشياء وبالضوء توصف. في الضوء المتعدد بالألوان يمايز الانسان بين صفاته وصفات البهيمة. في الضوء المتعدد بالألوان يتعالى الانسان على البهيمية والوحشنة. يصير لطافة في كثافة. لكن ميشيل الطفلة لم تعرف غير اسم واحد فقط يملأ صندوقها. لم ترى صوراً تجعلها تمايز بين البهيمية والأنسنة، فصارت روحاً أقرب إلى البهيمية منها إلى صفات الانسان.
في الثامنة من عمرها، قررت العائلة احضار معلم خاص، كمحاولة أخيرة للسيطرة على حال ميشيل المتوحش والصعب، قبل أن تلجأ إلى خيارها الأخير، المتمثل في إيداع ميشيل في دار رعاية خاصة.
كان المعلم رجلاً لا يعرف المستحيل. يعيش عالماً من الأفكار الضجرة والهائمة والشاردة التي لا تقبل التقييد أو الاستسلام. المعلم له علاقة خاصة بالضوء. يعتقد أن له قدرة على التعليم تشبه السحر. عندما أرسلوا يصفون له واقع ميشيل قال بثقة: "روح هائمة لا سبيل لها، سوف أمنحها جناحين مصنوعين من الكلمات. سوف أجعلها تحلق عاليا". استطاع المعلم أن يرى ظلمة ميشيل الخانقة والمهلكة. استطاع أن يفهمها. لم تكن ميشيل طفلة لينة مطيعة وسهلة الانقياد. بل كانت شرسة وعنيدة ومتمردة وصعبة الطباع. لكنه كان مؤمناً بقدرته على سحبها نحو الضوء. بقى المعلم متمسكاً بإيمانه بقدرته، رغم كل ما اعترضه من صعوبات وتحديات كفيلة أن تجعله ينسحب ويتراجع. تقول ميشيل بعد أن كبرت بين يدي ضوئه: "كان إيمانك بي كبيراً، وامتلكت أنا أجنحتي بذلك الإيمان"، "كانت أصابعك تحدثني.. الرحلة تبدأ حيث الظلام وتنتهي حيث الظلام.. يوماً ما سيتحتم علينا أن نمضي خلال هذا الظلام..ونصل إلى حيث الضياء.."
يبدأ المعلم أول دروسه مع تلميذته: " أنت مختلفة، ويجب أن تفتخري أنك مختلفة". بماذا تفتخر هذه الطفلة؟ هل تفتخر بعماها وخرسها وظلامها؟. يشرح المعلم لتلميذته اختلافها: "الأحرف الهجائية لن تبدأ معك كالمعتاد، بل ستبدأ من حروف الظلام.. ظ..لا..ا..م". لكن لماذا يبدأ المعلم من حروف الظلام؟ لماذا لا يبدأ من حروف النور والضوء؟. ربما لأن ظلام ميشيل لا يشبه نور الآخرين.
كانت تلك هي بداية صنع شبكة العين الجديدة لميشيل. حروف الظلام هي الحروف الوحيدة التي تعرفها ميشيل، لا يمكن لميشيل أن تعرف شيئاً لم تره. يخاطب المعلم الطفلة العمياء: "انهضي سيدة ميشيل. لقد مررنا جميعا من خلال هذه الظلمة. الظلمة التي تعيشين فيها أنت، لذا لا تبقي في نفس العتمة. تعالي إلى حيث الضياء".
عبر حروف الظلام والعتمة والسواد يمكن لميشيل أن تعبر نحو الضياء والنور والبياض. فهي تعبر إلى ما لا تعرفه عبر ما تعرفه. بمعرفة حروف الظلام، بمعرفة معنى الظلام، أصبحت ميشيل قادرة على جلب حروف الضوء لداخل حياتها: "كنت أنظر في ظلمتي. وكنت أنت من جلب ذلك الضوء المتلالئ".
لم تكن ميشيل لتخرج من ظلامها لو لم تتعرف أولا على حروف الظلام، لو لم تتعرف على معان جديدة للون الأسود الذي كانت تراه، لو لم تره نجاحاً وانجازاً بقدر ما تراه عتمة واختناقاً. بداية ميشيل الجديدة لم تكن لعن الظلام، بل في تعلم حروفه ومعرفتها. معرفة حروف الظلام هي بداية معرفة الضوء.
لسنوات طويلة كانت ميشيل ترى نفسها في الظلمة، والمعلم يراها في الضوء، تقول ميشيل: "لسنوات طويلة واصل المعلم سحبي من العتمة إلى الضياء". لسنوات طويلة عمل المعلم على مد ميشيل بالضوء. الضوء أكثر أهمية من العين بالنسبة للمعلم: "العين ليست مهمة مقارنة بالضوء. ففي الظلمة حتى العينين تغدوان بلا فائدة". الضوء هي شبكة العين غير الطبيعية التي صارت تستطيع بها أن ترى، هي العلاقة التي أقامتها بين الأشياء والرموز والحروف والكلمات. المعلم علم ميشيل كيف تضيء شمعتها لترى، يقول المعلم: "حالما تضاء الشمعة. سيمتلئ هذا البيت نورا".
لم يعط المعلم لميشيل معارف ثابتة ومعلومات، بل أعطاها أداة تفكير تستطيع بواسطتها أن تعيد بناء علاقتها بذاتها وبالعالم، أن تتلمس الضوء المنبعث من داخلها، أن تخلق معرفتها الخاصة، أن تبدع فهمها الخاص والمتفرد للأشياء. أن تبدع تعبيراتها. أن تقهر المستحيل. يفتخر المعلم: "المستحيل هي الكلمة الوحيدة التي لم أعلمها لها".
بهذا تحولت روح ميشيل الهائمة إلى طائر يحلق بجناحين رمزيين من الكلمات. إنهما الجناحين اللذين فاجآ المعلم نفسه. ميشيل تواجه أسئلة مصيرية في حياتها. أسئلة تحدد إمكانية قبول ضمها في الجامعة كأي طالب معافى: كم محيطاً يوجد في هذا العالم؟ تجيب ميشيل: بالنسبة لي كل قطرة ماء هي محيط. تُسأل: إذا كنا في الهند، ففي أي إتجاه تقع أمريكا؟ تجيب ميشيل: إن العالم مستدير، لذا فأمريكا يمكن أن تكون في أي اتجاه. تُسال: ماذا تعني المعرفة بالنسبة لك. تجيب ميشيل: المعرفة هي كل شيء، هي الروح، الحكمة، الشجاعة، الضوء، والأصوات، المعرفة هي انجيلي، الرب، المعرفة هي معلمي". تقف لجنة الفحص مشدوهة باجابات الطالبة العمياء. تفوز ميشيل بدخول الجامعة. وتبدأ رحلتها الصعبة الثانية مع الجامعة.
عبر هذا النموذج نستطيع أن نقدم معلم الضوء الذي نعنيه. هو ليس ذلك المعلم الخاص لتلميذ خاص كما مر معنا في حكاية ميشيل. مثل ذلك أمر بعيد عن الواقع الميداني. لكننا نقدم ملامح معلم الضوء الذي نعنيه:
• معلم الضوء يمتلك بعد نظر يتيح له أن يرى إلى أين يريد أن يأخذ تلاميذه.
• معلم الضوء لا يعرف المستحيل ولا يعلمه لتلاميذه مهما قست الظروف.
• معلم الضوء يؤمن بقدرته على أن يهب الضوء لتلاميذه اياً كانت ظلمتهم.
• معلم الضوء يؤمن بالطيران، ويؤمن بقدرته على أن يهب تلاميذه أجنحة يطيرون بها.
• معلم الضوء يؤمن بقدرته على أن يبدل ظلام صعوباتهم ومشاكلهم وأوضاعهم إلى تحديات. يؤمن باختلاف كل تلميذ عن الآخرين.
• معلم الضوء يؤمن أن الاختلاف قوة وليس ضعفاً، وأن التلميذ المختلف ليس متخلفاً عن التعليم، بل إنه بحاجة إلى حروف هجائية مختلفة يبدأ بها تعليمه. معلم الضوء ينطلق من ظلمة اختلاف تلاميذه إلى نور مشتركاتهم.
• معلم الضوء لا يلقي في طلابه المعلومات والمعارف والمعاني والتعريفات، بل يهبهم ما به يستطيعون صناعتها والتعبير عنها واستخدامها.
• معلم الضوء هو من يفتخر تلميذه أن يتقاسم معه رداء تخرجه من أعلى شهادة يصل إليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق