لن أتحدث و لن أنعيه كما اعتاد الناس مع معلميهم ، بل سأساعد في تعريفه للناس كي يستفيدوا بعلمه رحمه الله ।
جاء في مجلة مجمع اللغة العربيّة هذه الترجمة للشيخ من خلال كلمة عريف الاحتفال بمناسبة انتساب الشيخ حفظه الله للمجمع اللغوي :
" كلمة المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور عبده علي الراجحي
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها السادة، كنتُ قد عَقدتُ العَزْمَ على أن آتيَ بِكلامي في هذا المَقَامِ ارتِجالاً، كَعَادَتِي منذ أكثَرَ من خَمْسِينَ عامًا في مَقَامَاتِ البَيَانِ وخِطَابِ الجَماهير. ولكنِّي (هذه المَرة وفي مرات أخرى معدودة) خشيتُ أن يجنح بي المقام فأُرَدَّ على عَقِبيّ خَاسِئًا حَاسِرًا.
فَعمَدْتُ بعدُ إلى كِتَابَةِ هذه الكلماتِ القَصيراتِ ذاتِ الخطُوطِ المَحْدُودَة والقُيودِ المَمْدودة، وفاءً بِحَقِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الراجِح عقْلاً وفِكرًا وثقَافَةً وسُلوكًا، ووفاءً بِحَقِّكُم أيضًا في وجُوبِ الالتزامِ بانضباطِ التزمين، حتى لا يَنْدَمَ على حضورِه زائِر أو يتأفَّفَ ويَتَملمَلَ في مقعده شَاهد أو ناظِر. وعلى هذا أقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيسَ المجمع:
السادة الزملاء الأفاضل أعضاءَ المجمع:
السادة الحضور:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد،
فإنَّها لسعَادَةٌ غامِرةٌ أن وكَّل إليّ مجلسُ المجمع الموقَّر شَرفَ استقبال فارس من نمط فريد، تعتزّ قبيلة الشيوخ بانضمامه إلى حوزتها، وتزهو برشده وحصافته وبُعدِ نظره، في كيفيات الصولان والجولان في ميدانهم الذي يعِزّ على الكثيرين انتِسابُهم إليه أو الاقترابُ منه.
ذلكم الفارس أيها السادة، هو الأستاذ الدكتور عبده الراجحي. إنه فارس ذو رياستين حظيتا بتاجين مختلفين طلاء، مؤتلفين بناء، فكان التكامل في الطبع والصُّنع ، تكاملَ الإنسان على الوجهِ الذي أراده الله للأناسيّ الذين مازهم منهم، وفضلهم على سائر مخلوقاته.
أما الرياسة الأولى فقد خُلِعَ عليه تاجُها من الريف المصري العظيم. نشأ الراجحي وتربّى على "مصطبة" القرية، حيث يجلس العُمَدُ وحواريّوهم. وما أدراك من هم العُمَدُ في أيَّام الزمان الجميل الذي فاز صاحبنا بالعيش فيه لسنوات معدودات. جالسَ زميلُنا المحتفى به هؤلاء الأماجدَ ذوي الحُنكَةِ والدُّرْبَةِ، مستمعًا في البدء لما يقولون، مشاركًا بعدُ في الحوار، وإن على استحياء، حتى صلُبَ عوده واستقام بنيانه، وتفتَّحَ ذهنه ونما فكره، مزوّدًا بقيم الريف المصري الأصيل ومبادئه التي تصنع الرجال من أمثال "عريسِنا" الراجحي، الذي أبى إلا أن تكون قرينتُه هي مصر، حيث البذلُ والعطاء والنعمة والرخاء. فليقدِّمْ لها ولشبابها حقَّ الوفاء وما يسطيعه من جهد وعطاء.
وكان ما كان، انصرف الصبي إلى كتّاب القرية، شأنه في ذلك شأنُ السلالةِ الطيبة من أبناء ذوي الحصافة والرُّشد من فلاحي مصر، في تربية الأجيال. حفظ القرآن الكريم، وألمَّ بشيء من قواعد الحساب ورسوم الكتابة وضوابِط الإملاء، فتفتَّح ذهنه، وأخذ يفعّل طاقاتِه وإمكاناته في استقبال المعارف والتوليد منها، وإن بالتدريج، حتى رشحه هذا النهجُ الواعي من الاستقبال والإرسال للانخراط في ميدانٍ من المعرفة أوسعَ وأرحب، وأكثر تنوعًا.
التحق بالتعليم العام وقضّى فيه سنواتِه المقررةَ المرسومة، دون انقطاع أو ملل أو تكاسل، حتى نال الثانوية العامة بكفاية الشباب وعزم فِتيان الرجال. وكان للكتّاب أثرُه البالغ في هذا النجاح وذاك التوفيق، إذ إن "قرآنه" بإحكامِ آَيِهِ، وعمق فكره، وإجادة قراءته، وتجويد أدائه - كل ذلك قد منح الفتى الرجلَ حكمة التفكير، وحسنَ التدبير، والإفصاحَ عن كل ذلك بلسان عربي مبين، أغراه، بل دفع به دفعًا إلى حيث "العوربة"، انتماءً وفكرًا. ونموذجُها الصحيح الموثوق به، هو قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية.
انتقل صاحبنا "الراجحي" إلى الإسكندرية، مطبوعًا على "الانتماء" الذي شرب من أفاويقه على مصطبة القرية وصُبَّ في عقله صبًّا وملأ وجدانه، وأفصح عن نفسه سلوكًا وتصرفًا في دنيا الله.
وفي "عروس" البحر المتوسط، وجد العريس طِلبته، وفاز بحورته، فحلا له المُقام، الرائق المنعش، حتى يستطيع التوليدَ من فكره الخِصب، وينصرفَ في أناة وحكمة إلى رعاية ما يولّد وينتج، والدفعِ بكل ذلك إلى الميادين العربية، فارسًا من فرسانها المجلّين.
بدأ شوطَ الرياسة الثانية بآلياتها، وفعّلها على خير وجه، حتى تشقَّ له الطريقَ الصحيح وتكفلَ له إكمال المسيرة بنجاح وتوفيق، إلى أن حاز تاج التفرّد والامتياز في ميدان العلم والمعرفة بعامة، وفي ميدان الدرس اللغوي وما لفّه من ثقافات متنوعات على وجه الخصوص.
حصل على درجة الليسانس في الآداب من جامعة الإسكندرية سنة 1959م ثم عيّن معيدًا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب سنة 1961م، وخطا بعدُ خطواتٍ واثقةً في الدرس والتحصيل حتى نال درجَتي الماجستير والدكتوراه من هذه الجامعة، وتمّ له حصدُ هذه الدرجات العلمية جميعًا سنة 1967م.
وفي هذا العام نفسه عمل مدرسًا بقسم اللغة العربية. وتدرج الرجل في سلم الصعود العلمي الأكاديمي إلى أستاذ مساعد فأستاذ سنة 1977م.
ولم يقف الأمر بزميلنا الفاضل الدكتور الراجحي عند هذا الحد من المواقع الأكاديمية الفائقةِ القدْر الرفيعةِ القيمة في قوافل العلم والفكر، بل تعداه إلى ما هو أوسعُ وأرحب. رشحته عبقريته وأهّلته إمكاناته المنوّعة إلى تولّيه مناصبَ إداريةً علميةً ذاتَ شأن مقرر معلوم، في رسم الخطوط ولمِّ الخيوط، ومتابعةِ ما رُسم ونُظم بصدق وحزم. تولّى صديقنا المحتفى به عددًا كبيرًا من هذه المناصب الجامعة بين الحسنيين، نذكر منها ما يلي على ضرب من التمثيل:
عمل رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم وكيلاً للدراسات العليا والبحوث بالكلية نفسها، ومديرًا لمركز تعليم اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى، ومديرًا لمعهد الدراسات اللغوية والترجمة. وقد شرفت به كل هذه المناصب (وغيرُها) في إطار جامعة الإسكندرية. ولكنَّ همة الرجل ونجاحاتِه في تسيير شؤون هذه المناصب وتصريفِ أمورها قد شاع قدرها وعلا ذكرها، وامتدّ ريحها الطيبُ إلى مناطق أخرى في العالم العربي، حيث اختير عميدًا لكلية الآداب - جامعة بيروت العربية، ورئيسًا لقسم تأهيل معلمي اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى، بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالسعودية.
وطار ذكرُ الراجحي، واتسعت آفاق علمه وفضلِه، فلبّى دعواتٍ متعددات متنوّعات من جامعات وهيئات علمية، عربيةٍ وغير عربية، معارًا أو زائرًا أو مشتركًا في مؤتمرات وندوات.
أعير إلى جامعة بيروت العربية مرتين، كما أعير إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. ودُعي أستاذًا زائرًا إلى جامعة صنعاء، وجامعة "إرلانجن" بألمانيا.
أما حضوره إلى المؤتمرات والندوات واشتراكُه فيها بالبحوث والمناقشات والتعليقات فأمر فائق القدر في العدّ، عظيمُ الأهمية في معناه ومغزاه، ودليلُ عالمية الأستاذ، وأمارةُ سعةِ معارفه وعمقِ فكره. ويزيد من قيمة هذا الحضور، ويؤكد شمولَ المعرفة، وخاصّةَ الانتماء الحقيقي إلى الإنسانية في عمومها، بقطع النظر عن الزمان والمكان، أن كانت هذه المؤتمراتُ والندوات مشغولةً بدراسات وبحوث ذاتِ ألوان متنوّعات تقابل ألوانَ الفكر عند الإنسان واتجاهاتِه في الحياة، مهما بعُدَ موطِنهُ أو اقتربَ في الشرق والغرب على سواء.
وتلك نماذج معدودة مما جَهِدَ الرجل نفسَه في حضور هذه المؤتمرات والندوات والأخذِ بنصيب ذي أثر فاعل فيها:
- مؤتمر مشكلات تعليم اللغة العربية بالجامعات العربية - بالإسكندرية.
- مؤتمر تقنية الحاسوب واللغة العربية- الرياض بالسعودية.
- مؤتمر العلاقات الإسلامية البيزنطية- سالونيك اليونان.
ومن نماذج الندوات:
- الندوة الأولى لتعليم اللغات - جامعة الكويت.
- الندوة الأولى للّسانيات - الرباط - المغرب.
- ندوة مشكلات تعليم اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى - كوالا لامبور (ماليزيا).
أما المؤتمرات والندوات التي شرُفت بحضوره، مقتصرًا على المناقشات والتعليقات، من حيث عددُها وزمانها ومكانها، فحدِّث عنها ولا حرج، وليس لدينا من الوقت ما يسوّغ لنا الكلامَ عنها أو الإشارة إليها.
السادة الحضور:
كل ما ذكر من نماذجَ أو صورٍ للنشاط الفكري المتنوع الصفات والسمات، لا يعدو أن يكون حَسْوَةَ طائر من بحر عميق. إنها مجرد لافتات تنبئ عن طبيعة البضاعة وصنوفها، وتُفْصح عن تفردها وامتيازها بالطبع والصُّنْع. وهي بضاعة أو مخزونٌ منها لا يستطيع امتلاكَها أو التصرف فيها إلا القليل من الرجال، وفي مقدمتهم زميلنا الكريم الدكتور الراجحي.
وليس هذا فقط، فلقد برزت إلى الوجود بضاعات أخرى أعمقُ تأثيرًا وأكثرُ انتشارًا ونفعًا. بضاعاتٌ ذات طعوم ومذاقاتٍ متنوّعةٍ، تلبّي حاجة المتخصصين، وتمنح مفاتيح المعرفة اللغوية والثقافية للجماهير العريضة. طرحها صاحبنا المحتفى به على هؤلاء وأولئك في صورة كتب مؤلفة ومترجمة، ودراساتٍ وبحوث كثيرة.
ولسنا بقادرين في هذا المقام على أن نقف عند كل هذه الآثار وقفات خاصة. وتكفينا الإشارةُ إلى نماذج منها بذكر عناوينها، وهي أمارة مضامينها، والكاشفةُ عن مجالاتها، وما خُصِّصت له من البحث والدرس.
ومن اللافت للنظر - إعزازًا وتقديرًا - أن جاءت هذه الأعمال والآثار لتغطيَ مساحاتٍ واسعةً من مجالات الفكر الإنساني بصنوفه المتعددة: في الفكر اللغوي والأدبي والثقافي والاجتماعي، وحقولِ المعرفة العامة. وكان للفكر اللغوي منها النصيبُ الأكبر، وفاء بمسؤولياته في إطار اهتماماته، بحكم موقعه الذي رُسم له أو رسمه لنفسه. كتب وأجاد في الدرس اللغوي، القديم منه والحديث والعام والخاص، والنظري والتطبيقي. ولم يكن كل ذلك مقصورًا على مستوى من التحليل اللغوي دون آخر، بل غطّى مجملَ الفروع اللغوية بمنهج مقبول معتدّ به، بعيدٍ عن الاضطراب أو الخلط بين المناهج، كما نلمسه أحيانًا من بعض الدارسين المتخصصين وغير المتخصصين.
وهذه نماذج من أعماله اللغوية، مشفوعةً بأمثلة من مجالات الفكر الأخرى:
- النحو العربي والدرس الحديث - النحو العربي وأرسطو - دروس في المذاهب النحوية - دروس في شروح الألفية - فقه اللغة في الكتب العربية - النظريات اللغوية المعاصرة وموقفها من العربية - اللهجات في القراءات القرآنية - التطبيق الصرفي - التطبيق النحوي - علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية - أسس تعلّم اللغة وتعليمها (مترجم بالاشتراك) - مشكلة تعليم النحو لغير الناطقين بالعربية - كلام الأطفال - اللغة وعلوم المجتمع .
وفي الأدب والأسلوب: علم الأسلوب والمواءمة.
وفي الثقافة والمعارف العامة: الشخصية الإسرائيلية - هيراقليطس فيلسوف التغير - عبد الله بن مسعود.
أيها السادة:
ماذا يعني هذا الإنتاج الغزير، والجهدُ الفائق الذي لا يعرف الكلل أو الملل؟ إنتاج متواصل الحلقات في الزمان والمكان، وجُهْد الأوفياء المخلِصين من شباب الشيوخ و شيوخ الشباب الذين اكتملت لديهم الأدوات الفاعلة من فتوّة الشباب وحُنْكة الشيوخ.
فلو اقتصرنا في هذا المقام - نظرًا لضيق الوقت - على أعماله في الميدان اللغوي العام، لأوجزنا الكلام في جملة واحدة: الدكتور الراجحي علم نادر المثال، يرود ويقود ويرشد ويوجّه. ولم يقف هذا وذاك عند فترة من الزمان محدودة، أو موقع من المكان خاص، أو جانب من الدرس اللغوي دون آخر. لقد اتسعت جهوده وامتد فكره إلى مجمل مسارات الدرس اللغوي، في فلسفته واتجاهاته ومناهجه ورجاله على امتداد الزمان المتعاقبةِ خطواتُه واتساعِ المكان المتراميةِ أطرافُه في القديم والحديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق